فصل: القَوْل فِي وُرُود الْإِيجَاب الْمُتَعَلّق بأَشْيَاء على جِهَة التَّخْيِير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.فصل:

فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا قُلْتُمْ أَن الْأَمر بِالْحَجِّ مثلا على التَّرَاخِي وزعمتم أَن الْأَمر بالكفارات الَّتِي تجب عَن أَسبَاب لَا تعدِي فِيهَا على التَّرَاخِي فَمَا تَفْصِيل مذهبكم فِي تَركهَا المعقب سمة الْعِصْيَان.
قيل لَهُم: هَذِه مسئلة خَاضَ فِيهَا الْفُقَهَاء، وَنحن نومئ إِلَى مذاهبهم ثمَّ نوثر الصَّحِيح مِنْهَا فَمن الْفُقَهَاء من صَار إِلَى أَن من تمكن من الْحَج بُرْهَة من دهره ثمَّ اخترمته الْمنية وَلم يحجّ فَتبين لَهُ أَنه مَاتَ عَاصِيا، وتتسلط الْمعْصِيَة على أول وَقت الْإِمْكَان إِلَى الاخترام، وَمِنْهُم من قَالَ نعصيه ونخصص ذَلِك بآخر سني الْإِمْكَان وَكَذَلِكَ نخصص الْمعْصِيَة فِي الْكَفَّارَات بآخر وَقت الْإِمْكَان من ملتزمها. وَصَارَ مُعظم الْفُقَهَاء إِلَى أَن من أخر الصَّلَاة من أول وَقتهَا إِلَى وسط الْوَقْت ثمَّ اخترم فَلَا نعصيه أصلا بِخِلَاف مَا علق وُجُوبه بمدى الْعُمر وَقد صَار بعض من لَا يؤبه لَهُ من المنتمين إِلَى الْفُقَهَاء إِلَى أَنه ينتسب إِلَى الْمعْصِيَة فِي هَذِه المسألة أَيْضا وَهَذَا بعيد جدا فَإِن من زعم أَن من دخل عَلَيْهِ أول وَقت الصَّلَاة وانقضى عَلَيْهِ مِنْهُ مَا يسع قدر الْفَرْض ثمَّ اخترم فَيَمُوت عَاصِيا فقد اقْترب من خرق الْإِجْمَاع.
وَأما الَّذِي يرتضيه الْمُحَقِّقُونَ من الْأُصُولِيِّينَ فَهُوَ أَنا إِذا سوغنا لَهُ التَّأْخِير فِي الْوَاجِبَات الَّتِي قدمناها فأخرها وَهُوَ عازم على الْإِقْدَام عَلَيْهَا فِي مُسْتَقْبل الْأَوْقَات فَلَا نعصيه أصلا، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنا إِذا جَوَّزنَا لَهُ التَّأْخِير فَأخر وَترك مَا يسوغ لَهُ تَركه لبدله وَهُوَ الْعَزْم فالمصير إِلَى التعصية بِسَبَب تَأْخِير مجوزا شرعا محَال.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنه إِنَّمَا جوز لَهُ التَّأْخِير بِشَرْط سَلامَة الْعَاقِبَة واستشهدوا على ذَلِك بالتعزير فَإِن الزَّوْج لَهُ أَن يُعَزّر زَوجته فَلَو أدّى إِلَى تلفهَا تبين لنا وجوب الضَّمَان على الزَّوْج وَإِن كُنَّا قد جَوَّزنَا لَهُ الْإِقْدَام على التَّعْزِير أَولا.
وَاعْلَم أَن هَذَا لَا تَحْقِيق وَرَاءه وَذَلِكَ أَنا نقُول: إِذا زعمتم معاشر الْفُقَهَاء أَن تَأْخِير الْكَفَّارَات سَائِغ فَلَا تخلون أما أَن تزعموا أَن الانتساب إِلَى المعصيبة مُعَلّق على مَا يُحِيط الْمُكَلف بِهِ علما، أَو تزعموا أَنه مُعَلّق على مَا لَا يُحِيط علمه بِهِ، وَلَا يتَوَصَّل إِلَى مَعْرفَته، فَإِن زعمتم أَن الانتساب إِلَى الْمعْصِيَة مُعَلّق على مَا لَا يتَحَقَّق من الْمُكَلف علمه، فَهَذَا محَال، فَإِن من شَرط ثُبُوت قضايا التَّكْلِيف تمكن الْمُكَلف من الْعلم بالمندوبات والواجبات، وَهَذَا بَاطِل أطبق عَلَيْهِ الكافة، وَفِي تَجْوِيز التَّكْلِيف مَعَ اسْتِحَالَة الْوُصُول إِلَى الْعلم بحقيقته مصير إِلَى تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق على مَا قدرناه فِي غير مَوضِع وَإِن زعمتم أَن الْمعْصِيَة تستند إِلَى مَا يُعلمهُ الْمُكَلف فَهَذَا يُنَاقض الأَصْل الَّذِي أسستموه، وَذَلِكَ أَنكُمْ زعمتم أَن مُدَّة الْعُمر وَقت لِلْحَجِّ وَأَدَاء الْكَفَّارَات فَلَو تعذر من ملتزمها الْإِقْدَام عَلَيْهَا على مَوته فَلَا ينْسب إِلَى الْمعْصِيَة. وانقراض الْعُمر وانتهاؤه مِمَّا لَا يسْتَدرك، وَهَذَا وَاضح فِي بطلَان مَا قَالُوهُ، ونستدل على جَمَاهِير الْفُقَهَاء بالاخترام فِي أَوسط وَقت الصَّلَاة المؤقتة وَلَا يَسْتَقِيم فِي ذَلِك فصل سديد وَلَا يرتكبه إِلَّا متجاهل.
فَإِن قيل: فَمَا الميز بَين النَّوَافِل والواجبات؟، قُلْنَا: قد سبق القَوْل فِيهِ فِي أثْنَاء مسئلة الْفَوْر وسنزيده إيضاحا إِن شَاءَ الله عز وَجل فِي بَاب ثُبُوت وَاجِب من جمل لَا بِعَيْنِه.
فَإِن قيل: فَهَل للْوَاجِب على التَّرَاخِي وَقت تحكمون فِيهِ بِوُجُوبِهِ تضيقا؟
قيل: قد صَار بعض الْعلمَاء إِلَى أَن من ألمت بِهِ الآلام، وحس من نَفسه بِالْمَوْتِ، وَغلب ذَلِك على ظَنّه، فَتعين عَلَيْهِ الابتدار إِلَى الْحَج وَالْكَفَّارَة مَعَ الاقتدار عِنْد الْغَلَبَة على الظَّن خشيَة الْفَوات وَهَذَا لَو صَار إِلَيْهِ صائر لم يبعد، وَهَذَا كَمَا أَنا نقُول الضَّرْب المبرح الَّذِي يغلب على الْقلب إفضاؤه إِلَى مَا يُجَاوز حد التَّأْدِيب محرم على الزَّوْج عِنْد حُصُول غَلَبَة الظَّن، ومعظم الْأَحْكَام فِي المجتهدات منوطة بغلبات الظنون.
فَإِن قيل: فَمَا وَجه انفصالكم عَمَّا ألزمتم فِي التَّعْزِير؟ وَرُبمَا يعتضدون بِمَا يداني ذَلِك وَيَقُولُونَ إِنَّمَا يُبَاح للْمُسلمِ الرَّمْي إِلَى صف الْكَفَرَة فِي المعترك بِشَرْط أَن لَا يُصِيب مُسلما وَإِن كَانَ قد يبدر ذَلِك مِنْهُ.
قُلْنَا: هَذَا زلل عَظِيم مِنْكُم فِي أَحْكَام التَّكْلِيف، فَأَما الَّذِي قدمتموه من قَضِيَّة التَّعْزِير فأعلموا أننا لَا نجوز لَهُ تعزيرا يعري فِي مَعْلُوم الله عز وَجل عَن استعقاب تلف، فَإنَّا لَو خصصنا الْجَوَاز بذلك أفْضى ذَلِك بِنَا إِلَى تَعْلِيق الْأَحْكَام على مَا لَا يتَعَلَّق الْعلم بِهِ أصلا، وَلَا يتَقَدَّر تمكن الْعلم بِهِ، وَقد أوضحنا مُنَافَاة ذَلِك لقضايا التَّكْلِيف وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيل أَن نقُول إِنَّمَا نجوز للْمُسلمِ الرَّمْي إِلَى الْكَفَرَة بِشَرْط أَلا يُصِيب مُسلما فَإِن الْعلم بذلك مِمَّا لَا يدْخل تَحت الْإِمْكَان فِي مجاري الْعَادَات وَلَكِن القَوْل فِي المسئلتين أَنه جوز لَهُ الْإِقْدَام على مَا الْأَغْلَب أَنه لَا يعقب تعزيزه مَا يُؤَدِّي إِلَى تعدِي المجوز وَهَذَا يطرد فِي المسئلتين والمرجع إِلَى أغلب الْعَادَات فيهمَا.
فَإِن قيل: فَلَو تعقب التَّعْزِير الَّذِي لَا يغلب إفضاء مثله إِلَى التّلف أَو أصَاب السهْم وَاحِدًا من المستأسرين أَلَيْسَ الضَّمَان يتَعَلَّق بِهِ؟
قيل لَهُم: فِي الضَّمَان تَفْصِيل للفقهاء فَإِن قُلْنَا بِهِ فَلَيْسَ فِيهِ مُنَافَاة لما قدمْنَاهُ. وَكم من مُبَاح يتَعَلَّق بِهِ لُزُوم شَيْء، وأمثلة ذَلِك لَا تحصى من موارد الشَّرِيعَة، فَتَأمل ذَلِك.

.فصل:

إِذا خصصت الْعِبَادَة المفترضة بأوقات فَلَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون مستغرقة لَهَا وَإِمَّا أَن لَا تكون مستغرقة لَهَا، فَإِن كَانَت مستغرقة للأوقات المضروبة فَلَا يتَقَدَّر فِيهَا تصور تراخ وفسحة تَأْخِير، وَذَلِكَ كَالصَّوْمِ علق بِمَا بَين مطلع الْفجْر إِلَى وجوب الشَّمْس. وَإِن كَانَت الْعِبَادَة غير مستغرقة للأوقات المضروبة لَهَا كَالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَة المؤقتة. فقد اخْتلف الْعلمَاء فِي نعتها بِالْوُجُوب فِي أول الْوَقْت وأوسطه وَآخره.
فَذهب أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِلَى أَن الصَّلَاة إِنَّمَا تجب بآخر الْوَقْت فَإِذا بقى من الْوَقْت الْقدر الَّذِي يسع فعل الصَّلَاة من غير زِيَادَة فَحِينَئِذٍ يتَحَقَّق وجوب الصَّلَاة ثمَّ صَار إِلَى أَن الصَّلَاة لَو أُقِيمَت فِي أول وَقتهَا تأدى الْفَرْض بهَا وَاخْتلفت عِبَارَات أصحابه فَذهب بعض متعسفيهم إِلَى أَن الصَّلَاة المقامة فِي أول الْوَقْت نَافِلَة قَائِمَة مقَام الْفَرْض وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْوُجُوب فِيهَا مرقوب فَإِن انْقَضى الْوَقْت والمكلف مستجمع لشرائط الِالْتِزَام تبين بِالْآخرِ أَن الْمقَام أَولا وَقع فرضا إِسْنَادًا وَذهب بَعضهم إِلَى أَن آخر الْوَقْت إِذا دخل ثَبت آنِفا من غير إِسْنَاد انقلاب تِلْكَ الصَّلَاة فرضا فِي هذيان طَوِيل لَهُم، وَذهب بعض المنتمين إِلَى الْفُقَهَاء إِلَى أَن الصَّلَاة تجب بِأول الْوَقْت فَإِن أخرت كَانَت قَضَاء وَهَذَا الْقَائِل مَعَ مصيره إِلَى ذَلِك يُوَافق الكافة فِي جَوَاز التَّأْخِير.
وَقد نقل عَن مَالك رَضِي الله عَنهُ قريب من ذَلِك فِي الْحَج وَجُمْلَة الْعِبَادَات الْمُتَعَلّقَة بالعمر وَيَأْتِي مثل ذَلِك فِي الصَّلَاة.
وَالَّذِي صَار إِلَيْهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ رحمهمَا الله أَن الصَّلَاة يتَحَقَّق وُجُوبهَا فِي مفتتح الْوَقْت وَلَا يتخصص بِالْوَقْتِ الأول بل تتساوى جملَة الْأَوْقَات المصروفة فِي حكم الْوُجُوب كَمَا تتساوى جملَة الْأَوْقَات فِي امْتِثَال الْأَمر الْمُطلق فالأوقات المضروبة للصَّلَاة على التَّعْيِين كأوقات الْإِمْكَان فِي الْعُمر فِيمَا ورد الْأَمر بِهِ مُطلقًا من غير تأقيت بِهِ نَحْو الْحَج وَمثله.
ثمَّ اعْلَم أَنا إِذا فسحنا لَهُ فِي تَأْخِير الصَّلَاة من أول وَقتهَا فَلَا يجوز ذَلِك التّرْك إِلَّا لبدل عَنهُ وَهُوَ الْعَزْم على فعله فِي مُسْتَقْبل الْأَوْقَات بِشَرْط بَقَاء الصِّفَات المشترطة فِي التَّكْلِيف على مَا أومأنا إِلَيْهِ فِي أثْنَاء مسئلة الْفَوْر.
وَهَا نَحن نبطل مَا حكينا من الْمذَاهب خلاف مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنْهُمَا حَتَّى إِذا بطلت تعين مَذْهَبهمَا للصِّحَّة.
فَأَما أَبُو حنيفَة فَيُقَال لَهُ أَلَسْت وافقتنا أَن من أَقَامَ الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا ليتأدى الْفَرْض بذلك فَلَا تَخْلُو بعد تَسْلِيم هَذَا الأَصْل إِمَّا أَن تَقول أَن مَا أَدَّاهَا فِي أول الْوَقْت وَقع نفلا قَائِما مقَام الْفَرْض أَو لَا تَقول ذَلِك فَإِن قُلْتُمْ ذَلِك أدّى ذَلِك إِلَى خرق إِجْمَاع الْأمة، وَذَلِكَ أَن قَائِلا لَو قَالَ لكم إِذا أَقَامَ الْمُكَلف الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا فَهَل تحكمون بِوُجُوب الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي آخر الْوَقْت، أَو لَا تحكمون بِوُجُوبِهَا أصلا بعد مَا فرطت الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت، فَإِن لم تحكموا بِوُجُوبِهَا فِي آخر الْوَقْت لزمكم أَن تَقولُوا دخل وَقت الظّهْر على مُكَلّف مقتدر على إِقَامَة الصَّلَاة بشرائطها مَعَ الِاخْتِيَار وارتفاع الْأَعْذَار وَلم تجب عَلَيْهِ الظّهْر، وَهَذَا مراغمة مَا عَلَيْهِ الْأمة، وَيلْزم من قوده أَن تَقولُوا: من عمر مائَة أَقَامَ الصَّلَاة فِي جَمِيع عمره فِي أَوَائِل الْأَوْقَات فقد انْقَضى عمره وَمَا أوجب الله عَلَيْهِ صَلَاة، وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ، وَإِن هم قَالُوا: تجب الصَّلَاة فِي آخر الْوَقْت مَعَ جَوَاز تَقْدِيم الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت، فيلزمهم من ذَلِك شَيْئَانِ: أَحدهمَا خرق الْإِجْمَاع، وَالثَّانِي إبْطَال مَا عَلَيْهِ معولهم فِي المسألة، فَأَما خرق الْإِجْمَاع فَإِنَّمَا يلْزمهُم لِأَن الْأمة مجمعة على أَن من أَقَامَ الظّهْر فِي أول الْوَقْت فَلَا يتَعَلَّق بِهِ إِلْزَام الظّهْر فِي آخر الْوَقْت.
وَأما إبطالهم مَا عولوا عَلَيْهِ فَذَلِك أَنهم قَالُوا: حَقِيقَة جَوَاز التَّأْخِير، فَهَذَا لَو قَالُوا: إِن الصَّلَاة المقامة فِي أول الْوَقْت وَقعت نفلا.
ثمَّ أعقب الْفُقَهَاء مَا قدمْنَاهُ بشيئين: أَحدهمَا أَنهم قَالُوا لَو كَانَت الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت نفلا لجَاز للْمُصَلِّي أَن يَنْوِي النَّفْل وَقد وافقتمونا على أَنه لَو نوى ذَلِك لم يَقع موقع الْفَرْض. وأوضحوا ذَلِك بِأَن قَالُوا التَّنَفُّل قبل الزَّوَال سَائِغ كَمَا أَنه جَائِز بعده فَلَو كَانَت الصَّلَاة نفلا لما اخْتصّت بِمَا بعد الزَّوَال. وَالَّذِي نرتضيه الِاكْتِفَاء بِمَا قدمْنَاهُ.
وَإِن قَالُوا: الصَّلَاة المقامة فِي أول الْوَقْت مَوْقُوفَة فَإِن انْقَضى الْوَقْت والمكلف على شَرَائِط الصِّحَّة والالتزام بَان لنا وُجُوبهَا، وَإِن اخترم قبل آخر الْوَقْت بَان لنا وُقُوعهَا موقع النَّفْل وَهَذَا مَا تميل إِلَيْهِ الدهماء من فُقَهَاء أصحاب أبي حنيفَة، ثمَّ تمثلوا فِي ذَلِك بأمثلة فِي الشَّرِيعَة نصير فِيهَا إِلَى الْوَقْف أَولا ثمَّ نسند إِلَيْهَا حكما آخر، فَنَقُول فِي الرَّد على هَؤُلَاءِ: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنا نقُول: إِذا انْقَضى عَلَيْهِ الْوَقْت ألستم زعمتم أَنه يتَبَيَّن أَن الصَّلَاة المقامة فِي أول الْوَقْت وَقعت فرضا أول مَا وَقعت، فَنَقُول: أَنْتُم فَلَا تخلون إِذا إِمَّا أَن تزعموا أَنه بَان لنا وُجُوبهَا فِي أول الْوَقْت حَتَّى لَو قدر تَأْخِيره عَن أول الْوَقْت نسبناه إِلَى الْعِصْيَان، أَو لَا تَقولُونَ ذَلِك؟ فَإِن قُلْتُمْ تبين لنا أَنه كَانَ لَا يجوز لَهُ التَّأْخِير، فَهَذَا خرق الْإِجْمَاع، وَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى تَقْرِيره لوضوحه وَإِن قُلْتُمْ لم يبن لنا تضيق الْوَقْت، فقد أثبتم وَاجِبا يجوز تَأْخِيره، وَهَذَا أوضح من فلق الصُّبْح.
وَالْوَجْه الثَّانِي: فِي الرَّد عَلَيْهِم أَن نقُول: من أَقَامَ الظّهْر فِي أول وقته ثمَّ اخترم فِي أَوسط الْوَقْت فقد أَجمعت الْأمة على أَنه قد أَقَامَ الظّهْر ثمَّ أَجمعُوا أَن الْمُكَلف مَعَ سَلامَة الْأَحْوَال وارتفاع الْأَعْذَار لَو بدر مِنْهُ مَا يَتَّصِف بِكَوْنِهِ ظهرا أَولا مَعَ الِاقْتِصَار عَلَيْهِ لَا يكون نفلا، فَلَا يزالون يتورطون فِيمَا يلْزمهُم خرق الْإِجْمَاع. واجتز بِمَا قدمْنَاهُ قبل ذَلِك.
وَإِن قَالُوا: إِن الصَّلَاة المقامة فِي أول وَقتهَا وَقعت نفلا ثمَّ انقلبت فرضا لَا على وَجه التبين والإسناد. فَهَذَا بَاطِل من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن مَا مضى من الْأفعال وانقضى من الْعِبَادَات على كمالها فيستحيل قلب صفتهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا مَضَت وَانْقَضَت منعوتة بالتطوع فَلَو وصفناها ابْتِدَاء بِالْوُجُوب كَانَ محالا، لِأَن الْوَصْف بِالْوُجُوب إِنَّمَا يتَحَقَّق إِمَّا فِي مَوْجُود حَال حُدُوثه، وَإِمَّا فِيمَا سيوجد.
فَأَما مَا انْقَضى وجوده على خلاف نعت الْوُجُوب فيستحيل ابْتِدَاء وصف الْوُجُوب لَهُ وَهَذَا كَمَا أَن فعلا لَو وَقع فِي غير موقع الطَّاعَات وانقضى فيستحيل وَصفه بعد انقضائه ابْتِدَاء وإنشاء إِلَّا أَن يتَبَيَّن بِكَوْنِهِ طَاعَة، اللَّهُمَّ وَإِن سبق لنا مُقَارنَة سمة الطَّاعَة لوجودها وَهَذَا بَين لَا ريب فِيهِ.
وَالْوَجْه الآخر للإبطال أَن نقُول: ألستم عولتم فِيمَا إِلَيْهِ ذهبتم على أَن من حكم الْوَاجِب أَن يَعْصِي الْمُكَلف بِتَرْكِهِ، فَنَقُول لكم بِمَا دخل آخر الْوَقْت فقد تحقق مِنْهُ التّرْك وَلم ينتسب إِلَى الْمعْصِيَة وَالَّذِي بدر مِنْهُ فِي أول الْوَقْت غير مَا يجب عَلَيْهِ فِي آخر الْوَقْت فقد أثبتم وجوبا مَعَ انْتِفَاء الْعِصْيَان عِنْد تَحْقِيق تَركه، فاتضح بطلَان مَا قَالُوهُ من كل الْوُجُوه، وَلم يبْق إِلَّا الْقطع بِأَن الصَّلَاة تجب وَلَا يتخصص وُجُوبهَا بآخر الْوَقْت. فَهَذَا أوجه الرَّد على أصحاب أبي حنيفَة.
فَأَما من زعم من أَن الصَّلَاة تجب بِأول الْوَقْت، وَلَو أخرت عَنهُ لكَانَتْ قَضَاء فَهَذَا مَذْهَب لَا طائل وَرَاءه، فَأَنا نقُول: إِذا زعمتم أَن الصَّلَاة تجب بِأول الْوَقْت. فَهَل تَقولُونَ: إِن الْمُكَلف يَعْصِي بتأخيرها؟ فَإِن قُلْتُمْ ذَلِك، خرقتم الْإِجْمَاع المنعقد قبل حُدُوث هَذَا الْمَذْهَب، وَقطع الْكَلَام عَنْكُم، وَإِن قُلْتُمْ: إِنَّه لَا يَعْصِي بِالتَّأْخِيرِ، فَنَقُول لكم: فَلَو أَقَامَهَا فِي الْوَقْت الثَّانِي هَل تَبرأ ذمَّته؟ فَإِن قَالُوا: تَبرأ ذمَّته، قيل لَهُم: فَلَا خلاف بَيْننَا فِي الْمَعْنى، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي تَسْمِيَة الصَّلَاة أَدَاء أَو قَضَاء، فَمن أَيْن عَرَفْتُمْ الْفَصْل بَين الْوَقْتَيْنِ؟ وَإِضَافَة الصَّلَاة إِلَى الْوَقْت الأول كإضافتها إِلَى الْوَقْت الثَّانِي، فاضمحل هَذَا الْمَذْهَب وَرجع محصوله إِلَى التسميات، وَذَلِكَ أَنا نقُول: إِنَّمَا يُطلق الْقَضَاء على مَا يسْتَدرك وُجُوبه بِالْأَمر بِالْأَدَاءِ كَمَا سنقرره إِن شَاءَ الله عز وَجل وَهَؤُلَاء وافقونا أَن إِقَامَة الصَّلَاة فِي آخر الْوَقْت يدْرك وُجُوبهَا بِالْأَمر الْمُطلق فِي الصَّلَاة المؤقتة بجملة الْأَوْقَات.
فَإِذا بطلت هَذِه الْمذَاهب تعين مَا ارْتَضَاهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنْهُمَا.
فَإِن قَالُوا: لَيْسَ من وصف الْوَاجِب أَن يَعْصِي الْمُكَلف بِتَرْكِهِ ويتحقق التّرْك فِي أول الْوَقْت من غير انتساب إِلَى الْمعْصِيَة فَلَو جَازَ إِثْبَات وصف الْوُجُوب على هَذَا الْوَجْه جَازَ وصف النَّوَافِل بِالْوُجُوب. وَبِمَا قدمْنَاهُ من الْأَدِلَّة ننفصل عَن ذَلِك، ثمَّ نقُول اعلموا أَن الْوَاجِب عندنَا فِي أول الْوَقْت أحد شَيْئَيْنِ: إِمَّا فعل الصَّلَاة أَو الْعَزْم على إِقَامَتهَا فِي مُسْتَقْبل الْأَوْقَات فَأَيّهمَا فعل فقد أدّى مَا كلف فَإِن تَركهمَا عصى، ويتنزل الْمُكَلف فِي أول الْوَقْت منزلَة من تلْزمهُ كَفَّارَة الْيَمين وتخيره بَين ثلث خلال وَقد يضيق عَلَيْهِ وَقت التَّكْفِير. وَقد يتضيق فِي بعض الْمَوَاضِع فَلَو قَالَ قَائِل أَن شَيْئا من أَقسَام الْكَفَّارَة لَيْسَ بِوَاجِب لِأَنَّهُ لَو تَركه لم يعْص بِهِ، كَانَ محالا، بل الْوَاجِب أَحدهمَا، على مَا نقرره بعد ذَلِك فِي بَاب مُفْرد إِن شَاءَ الله عز وَجل، فَلَو ترك كليهمَا عصى حِينَئِذٍ مَعَ ثُبُوت التَّضْيِيق.
ثمَّ طرد ذَلِك فِي سَائِر الْأَوْقَات حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى آخر الْوَقْت فَنَقُول: لَا يتَصَوَّر مِنْهُ الْعَزْم على الْأَدَاء فِي الِاسْتِقْبَال، فَتعين فعل الصَّلَاة فَهَذَا وَجه التَّحْقِيق وكشف الغطاء وَمن أحَاط علما بِهِ لم يبْق عَلَيْهِ لبس إِن شَاءَ الله عز وَجل.

.فصل:

فَإِن قيل: هَل تجوزون تأقيت الْعِبَادَة بِوَقْت لَا يَسعهَا مَعَ الْمصير إِلَى إِحَالَة تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق؟.
قُلْنَا: لَا يجوز ذَلِك على هَذَا الأَصْل فَإِنَّهُ من المحالات.
فَإِن قيل: أَلَيْسَ قَالَ الْفُقَهَاء إِن من أدْرك من أصحاب الضرورات قدر رَكْعَة من آخر صَلَاة الْعَصْر فَيلْزمهُ الْعَصْر فِي وَقت لَا يَسعهَا وَكَذَلِكَ قُلْتُمْ من نذر أَن يَصُوم يَوْم يقدم زيد فَلَو قدم لَيْلًا لم يلْزم بِالنذرِ شَيْئا وَلَو قدم نَهَارا ألزمتم الصَّوْم، وَإِن كَانَ بَقِيَّة الْيَوْم بعد مقدمه لَا يسع صوما مَشْرُوعا.
قيل: إِذا أطلق الْفُقَهَاء عبارَة الْوُجُوب فِي هَذَا الْمنَازل فَلَا يعنون بهَا وجوب الْأَدَاء مَعَ تضييق الْوَقْت وَلَكِن يعنون بذلك وجوب الْقَضَاء فَإِذا قَالُوا من أدْرك من الْعَصْر وَجب عَلَيْهِ الْعَصْر، أَرَادوا بذلك أَو يُوقع المسألة الَّتِي صورتموها فَلَا يعنون بذلك وجوب صَوْم ذَلِك الْيَوْم وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ وجوب الْقَضَاء وَهُوَ مُصَرح بِهِ كَلَامهم فَإِنَّهُم يفصحون بِالْقضَاءِ ويفصلون الْمذَاهب فِي وجوب الِامْتِثَال فِي يَوْم الْمُقدم فَتبين المرام على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ.

.القَوْل فِي وُرُود الْإِيجَاب الْمُتَعَلّق بأَشْيَاء على جِهَة التَّخْيِير:

فَإِن قَالَ قَائِل: هَل تجوزون وُرُود الْإِيجَاب والإلزام مُتَعَلقا بِشَيْء من أَشْيَاء على جِهَة التَّخْيِير وَانْتِفَاء التَّعْيِين.
قُلْنَا: نجوز ذَلِك وَلَا نَحْفَظ عَن أحد من أصحاب الْمذَاهب منع تَجْوِيز ذَلِك على الْجُمْلَة، وَلَكنَّا ندل عَلَيْهِ بأوضح شَيْء فَنَقُول: إِذا وَجب على الحانث فِي يَمِينه الْكَفَّارَة، وَورد الشَّرْع بتخييره بَين ثَلَاث خلال، أَحدهَا الْعتْق وَالثَّانيَِة الْإِطْعَام وَالثَّالِثَة الْكسْوَة فَهَذَا مِمَّا يجوز، وَلَا يستبعد عقلا وَذَلِكَ أَن كل وَاحِد مِنْهَا يَقع التَّخْيِير فِيهِ مِمَّا يَصح اكتسابه، وَقد قدمنَا فِيمَا سبق أَن كل مَا يَصح اكتسابه يَصح تعلق التَّكْلِيف بِهِ فَإِذا كَانَ كل وَاحِد على النَّعْت الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَلَيْسَ فِي تَفْوِيض إِيثَار وَاحِد إِلَى الْمُكَلف تنَاقض وتناف، فَتبين جَوَاز ذَلِك عقلا.
وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة فِي تمهيد جَوَاز ذَلِك لَهُ إِلَى أَن مُقْتَضى قواعدهم فِي بِنَاء التَّكْلِيف على الْمصَالح وَزَعَمُوا أَنه لَا يستبعد فِي مجاري الْمصَالح أَن يَسْتَوِي شَيْئَانِ فِي الْأَدَاء إِلَى مصلحَة عبد ثمَّ إِذا تماثلا خير الْمُكَلف بَينهمَا وأوضحوا ذَلِك عِنْد أنفسهم بمثال فِي الشَّاهِد وَقَالُوا إِذا طلب الْأَب مصلحَة ابْنه فِي أمره وَعلم أَنه لَو ألطف لَهُ القَوْل صلح فِيمَا يرومه مِنْهُ، وَلَو حباه بِدِينَار صلح أَيْضا، فَيتَخَيَّر فِي طلب صَلَاحه بِأَحَدِهِمَا.
وَنحن معاشر أهل الْحق نستغني عَن هذيانهم فِي الصّلاح والأصلح، ونبني جَوَاز التَّكْلِيف على مَا يجوز اكتسابه إِذا احتلنا القَوْل بتكليف مَا لَا يُطَاق.
ثمَّ اعْلَم أَن التَّخْيِير قد يتَعَلَّق بمتضادين يَسْتَحِيل الْجمع بَينهمَا عقلا، وَقد يتَعَلَّق بمختلفين يجوز بَينهمَا عقلا وسمعا، وَقد يتَعَلَّق بمختلفين يجوز الْجمع بَينهمَا عقلا وَقد منع الشَّرْع بَينهمَا، وَقد يتَعَلَّق التَّخْيِير فِي الْإِلْزَام بشيئين ويتخصص أَحدهمَا لَو آثره الْمُكَلف بِزِيَادَة ندب وإيضاح ذَلِك بالأمثلة: أما التَّخْيِير بَين المتضادين فَهُوَ نَحْو وُرُود الْأَمر بِالْقيامِ وَالْقعُود، وَأما التَّخْيِير بَين مُخْتَلفين منع الشَّرْع الْجمع بَينهمَا وَإِن سَاغَ تَقْدِير ذَلِك عقلا، فَهُوَ نَحْو تَخْيِير الْوَلِيّ بَين الْأَكفاء فِي تَزْوِيج وليته، فَيثبت التَّخْيِير بَين آحادهم، وَلَا يجوز الْجمع بَين اثْنَيْنِ فِي حكم التَّزْوِيج، وَكَذَلِكَ إِذا انطوى الْعَصْر على أشخاص يصلح كل وَاحِد مِنْهُم للْإِمَامَة فَيجب نصب أحدهم، والتخيير فِي ذَلِك إِلَى أهل الْحل وَالْعقد عِنْد التَّسَاوِي فِي الصِّفَات وَلَو أَرَادوا الْجمع بَين إمامين لم يجز لَهُم ذَلِك وأمثلته تكْثر، وَأما تَخْصِيص إِحْدَى الخيرتين بِزِيَادَة تحريض فَهُوَ نَحْو الْإِعْتَاق مَعَ الْإِطْعَام فِي أغلب الْأَوْقَات فَإِن الْعتْق يخصص بِزِيَادَة تحريض.
فَإِن قيل: يتَصَوَّر التَّخْيِير بَين مثلين قبل ان يتساويا فِي كل الْأَوْصَاف، وَلم يتخصص أَحدهمَا عَن الثَّانِي بِوَصْف وَوقت وَتعذر الميز بَينهمَا، فَلَا يجوز تثبيت التَّخْيِير مَعَ تعذر الْعلم بالميز فَإِن من شَرط ثُبُوت أَحْكَام التَّكْلِيف إِمْكَان الْعلم بمواقعها. وإيضاح ذَلِك بالمثال أَن قَائِلا لَو قَالَ: يتَخَيَّر الْمُكَلف بَين أَن يُصَلِّي أَربع رَكْعَات وَبَين أَن يُصَلِّي أَربع رَكْعَات مَعَ تساويهما فِي كل النعوت كَانَ ذَلِك مِمَّا لَا يدْرك فِي حكم التَّكْلِيف وَإِن كَانَ المتماثلان متغايرين كَمَا أَن الْمُخْتَلِفين متغايران .
ثمَّ اعْلَم أَن مُعظم الْعِبَادَات فِي الشَّرْع على التَّخْيِير وَمَا من عبَادَة إِلَّا ويدخلها التَّخْيِير إِلَّا مَا يشذ ويندر.
فَإِن قيل: فَمَا وَجه التَّخْيِير فِي كَفَّارَة الْقَتْل فِي حق المقتدر على الْإِعْتَاق.
قُلْنَا: إِذا كَانَت لَهُ رِقَاب تخير فِي أَيهمْ شَاءَ وَإِذا لم تكن تخير فِي ابتياع أَي عبد شَاءَ إِذا كَانَ مستجمعا لشرائط الْأَجْزَاء.
فَإِن قيل: إِذا تعين رد الْوَدِيعَة فَمَا معنى التَّخْيِير فِيهَا مَعَ الْإِمْكَان.
قيل: يردهَا بِيَمِينِهِ أَو يسَاره وهما فعلان متغايران، وَكَذَلِكَ يتَوَضَّأ مَعَ تعْيين الْوضُوء بِأَيّ مَاء شَاءَ، وَيُصلي مَعَ ضيق الْوَقْت فِي أَي مَكَان شَاءَ مَعَ أَي لبوس سَاتِر أَرَادَ، فَمَا من عبَادَة وَطَاعَة إِلَّا ويتجمع فِيهَا ضروب من الْخيرَة.
فَإِذا احطت علما بذلك فَاعْلَم أَن الشَّرْع إِذا تعلق باقتضاء إِيجَاب فِي أَشْيَاء على التَّخْيِير مَعَ تساويها فِي الصِّفَات فَمَا صَار إِلَيْهِ المتكلمون وَمن يعول على مذْهبه من الْفُقَهَاء أَن الْوَاجِب مِمَّا وَقع فِيهِ التَّخْيِير وَاحِد لَا بِعَيْنِه، وَلَا تُوصَف كلهَا بِالْوُجُوب وَلَيْسَ الْمَعْنى بقولنَا إِن الْوَاجِب وَاحِد لَا بِعَيْنِه إِنَّه مُتَعَيّن فِي علم الله ملتبس علينا وَلَكِن مَا من وَاحِد مِنْهَا قد يُبدل سَائِر إِلَّا تعلّقت بِهِ بَرَاءَة الذِّمَّة.
وَذهب الجبائي وَابْنه فِي فِئَة من أتباعهما وشرذمة من الْفُقَهَاء أَن الْكل مِنْهَا وَاجِب وَلَا يتخصص بِالْوُجُوب مِنْهَا وَاحِد، حَتَّى قَالُوا من حنث فِي يَمِينه وَجب عَلَيْهِ الْإِعْتَاق وَالْكِسْوَة وَالْإِطْعَام وَلَا نقُول: إِن الْوَاجِب وَاحِد فِي ذَلِك، وَالدَّلِيل فِي الرَّد عَلَيْهِم أَن نقُول: قد تتَعَلَّق الْخيرَة بأَشْيَاء يحرم الْجمع بَينهَا وَذَا نَحْو مَا تمثلنا بِهِ فِي الْإِمَامَة وَالتَّزْوِيج من الإكفاء إِلَى غَيرهمَا من الْأَمْثِلَة. فَنَقُول لخصومنا لَا تخلون إِمَّا أَن تحكموا بِأَن الْوَاجِب مِنْهَا وَاحِد لَا بِعَيْنِه فقد سلمتم المسألة فَإِن معولكم فِي وصف كلهَا بِالْوُجُوب على تساويها فِي النعوت والإفضاء إِلَى الصّلاح لَو قدرت أفرادا فزعمتم أَنه إِذا وَجب وصف وَاحِد بِالْوُجُوب وَجب وصف مثله بِمثل وَصفه لَا ستحالة أَن يثبت للشَّيْء وصف وَلَا يثبت مثل لمثله، وَإِن زعمتم أَن كلهَا وَاجِب فيلزمكم من ذَلِك الْمصير إِلَى وجوب كلهَا مَعَ تَحْرِيم الْجمع بَينهمَا، وَهَذَا إفصاح بالمحال، وتطرق إِلَى تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُم عَنهُ.
وَمِمَّا يعول عَلَيْهِ فِي المسألة أَن نقُول: إِذا خير الْمُكَلف بَين أَشْيَاء فَمن تَركهَا كلهَا مفرطا بِتَرْكِهَا لَزِمته كَفَّارَة، فَلَا تلْزمهُ الْمعْصِيَة إِلَّا بترك وَاحِد وفَاقا، وَلَا نجْعَل الحانث التارك للإعتاق وَالْإِطْعَام وَالْكِسْوَة عَاصِيا بترك كل وَاحِدَة من هَذِه الْخلال، حَتَّى يتنزل منزلَة من ترك الْإِعْتَاق وَالصِّيَام وَالْإِطْعَام عَن ثَلَاث كَفَّارَات، وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ، فَتبين بذلك أَن الْوَاجِب مِنْهَا وَاحِد.
وَأَرْدَفَ الْفُقَهَاء ذَلِك بِأَن قَالُوا إِذا عَم الْوُجُوب عَمت الْمعْصِيَة عِنْد ترك وَهُوَ نَحْو فرض الْكِفَايَة يتَعَلَّق بالمكلفين فَلَو غفل حرج الكافة.
وَكَذَلِكَ من ضمن ألفا عَن الْمَدْيُون عَلَيْهِ ثمَّ تمنع مَعَ الْمَضْمُون عَنهُ عَن الْأَدَاء فيعصي كل وَاحِد مِنْهُمَا بترك أَدَاء الْألف الْمُلْتَزم، وَإِن كَانَ مقصد المطالب مِنْهُمَا ألفا، فَلَمَّا عَمهمَا الْوُجُوب عمتهما الْمعْصِيَة بِالتّرْكِ، وَلما اتّحدت الْمعْصِيَة فِي صُورَة التَّنَازُع دلّ على اتِّحَاد الْوُجُوب.
وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ أصحابنَا أَن قَالُوا: لَو أقدم على الْخِصَال الثَّلَاث فِي الْكَفَّارَة مَعًا وَيتَصَوَّر ذَلِك بِأَن ينصب فِي تأديتها وكلاء فتتفق أفعالهم فِي وَقت وَاحِد فقد قَالُوا اجْمَعْ: إِنَّهَا إِذا وَقعت فَالْوَاجِب مِنْهَا وَاحِد.
وَقد انْفَصل أَبُو هَاشم من ذَلِك فَقَالَ هَذَا سُؤال محَال على قَضِيَّة أصلنَا، فَإِن مَا اتّصف بالوجود لَا يُوصف بِالْوُجُوب فَإِن الْوُجُوب من أَحْكَام التَّكْلِيف، وَلَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بالشَّيْء مَعَ حُدُوثه، وَإِنَّمَا يتَحَقَّق التَّكْلِيف قبل الْحُدُوث، كَمَا يتَحَقَّق الاقتدار قبل الْحُدُوث، فَيُقَال لَهُ هَذَا لَا ينجيك عَمَّا أُرِيد بك، وَذَلِكَ أَنَّك وَإِن كنت لَا تصفها بِالْوُجُوب عِنْد الْوُجُود فَنَقُول فِي كل مَا وَجب قبل حُدُوثه إِذا حدث: إِنَّه كَانَ وَاجِبا، وَإِذا وجدت الْخِصَال الثَّلَاث فِي الْكَفَّارَة فَلَا يمكنك أَن تَقول: كلهَا كَانَت وَاجِبَة حَتَّى يُثَاب الْمُكَلف على كل وَاحِد الإثابة على الْوَاجِبَات، وَهَذَا بَين من هَذَا الْوَجْه.
وَمِمَّا يُقَوي التَّمَسُّك بِهِ أَن من لزمَه إِعْتَاق رَقَبَة فَهُوَ مُخَيّر بَين الرّقاب المحدثة فِي الْعَالم، ثمَّ لَا يُقَال: إِنَّه يجب عَلَيْهِ إِعْتَاق رِقَاب الْعَالم وَكَذَلِكَ من لزمَه التَّصَدُّق بدرهم فَهُوَ مُخَيّر فِي أَعْيَان الدَّرَاهِم، ثمَّ لَا يُقَال: إِنَّه يجب عَلَيْهِ التَّصَدُّق بِدَرَاهِم الدُّنْيَا. وَهَذَا قبيل لَا يرتكبونه وَلَا يفصلون بَينه وَبَين الْمُتَنَازع فِيهِ بفصل سديد.
شُبْهَة الْمُخَالفين: فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ الْوَاجِب مِنْهَا وَاحِدًا بِغَيْر عينه لَأَدَّى ذَلِك إِلَى أَن يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِمَا لَا يتَعَيَّن للمكلف وَلَا يتَمَيَّز وَذَلِكَ محَال.
قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل من أوجه: أَحدهَا: أَن من لزمَه إِعْتَاق رَقَبَة فَلَا يُطلق بِوُجُوب إِعْتَاق الرّقاب عَلَيْهِ ثمَّ يلْزم فِي ذَلِك من اللّبْس مَا ألزمتموه.
ثمَّ نقُول ألستم تَقولُونَ: إِنَّه يَعْصِي بترك وَاحِد لَو ترك كلهَا مَعَ تساويها فِي كل الصِّفَات وَلَا يتَعَيَّن مَا يَعْصِي بِتَرْكِهِ. فقولنا فِي الْإِقْدَام كقولكم فِي التّرْك، وأفرض عَلَيْهِم الْكَلَام فِي خِصَال مُتَسَاوِيَة فِي الْمصَالح وكل الصِّفَات فَإِنَّهَا إِذا اخْتلف فَرُبمَا يَزْعمُونَ أَنه إِذا تَركهَا عصى بترك أدونها ثمَّ نقُول إِنَّمَا يَسْتَحِيل التَّكْلِيف لَو طلب من الْمُكَلف خصْلَة من خِصَال وَلم يُفَوض إِلَى خيرته وَلم يعين لَهُ، فَأَما إِذا فوض إِلَى اخْتِيَاره فَلَا اسْتِحَالَة فِيهِ وَهَذَا بَين لكل ذِي تَأمل.
وَالَّذِي عول عَلَيْهِ أَبُو هَاشم أَن قَالَ: إِنَّمَا يثبت وجوب الشَّيْء لكَونه على صفة تَقْتَضِي لَهُ نعت الْوُجُوب، وَإِذا تعلق التَّخْيِير بأَشْيَاء فَكل وَاحِد مِنْهَا على الصّفة الَّتِي تَقْتَضِي لَهُ نعت الْوُجُوب، فَلَو نَفينَا سمة الْوُجُوب عَن كل وَاحِدَة مِنْهَا مَعَ كَونهَا على الصّفة الَّتِي تَقْتَضِي لَهَا نعت الْوُجُوب لزم نفي الْوُجُوب عَن سائرها.
فَيُقَال لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بِنَاء مِنْكُم على فَاسد أصلكم فِي صرف الْأَحْكَام إِلَى صِفَات الْأَنْفس والذوات فَإِنَّكُم زعمتم أَن الْقَبِيح فِي نَفسه على سمة تَقْتَضِي لَهُ سمة الْقبْح، وَالْحسن فِي نَفسه على صفة تَقْتَضِي لَهُ وصف الْحسن، فطردتم ذَلِك فِي مُعظم أَحْكَام التَّكْلِيف.
وَأما نَحن فننكر ذَلِك ونصير إِلَى أَن الْأَحْكَام لَا ترجع إِلَى صِفَات الْأَنْفس وَإِنَّمَا هِيَ فِي التَّحْقِيق آئلة إِلَى قضايا كَلَام الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقد أفردنا بَابا فِي ذَلِك فِي صدر الْكتاب فَإِذا بَطل مَا ادعوهُ من صرف الْوَاجِب إِلَى صفة الْوَاجِب اضمحل مَا بنوا عَلَيْهِ من وجوب التَّمَاثُل فَإِن التَّمَاثُل إِنَّمَا يرجع إِلَى صفة الْأَجْنَاس.
ثمَّ نقُول لَهُم هَذَا الَّذِي ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم برقاب الْعَالم فِي حق من لَزِمته رَقَبَة فَإِنَّهَا مُتَسَاوِيَة فِي الصِّفَات الَّتِي أومأتم إِلَيْهَا مَعَ اسْتِحَالَة القَوْل بِوُجُوب إِعْتَاق جَمِيعهَا وَالَّذِي يهدم هَذَا الأَصْل مَا عولنا عَلَيْهِ فِي أدلتنا حَيْثُ قُلْنَا قد يتَعَلَّق بأَشْيَاء يحرم جَمِيعهَا على مَا سبق إيضاحه. فَنَقُول للمعتصم بِهَذِهِ الشُّبْهَة مَا ذكرته من تَسَاوِي الصِّفَات مَوْجُود فِي هَذَا الْقسم، أفتقول بِوُجُوب الْكل؟ فَإِن لم يقل بِهِ فقد نقض شبهته وَإِن قَالَ بِوُجُوب الْكل قيل: فَكيف يَسْتَقِيم القَوْل بِوُجُوب الْكل مَعَ الْمصير إِلَى تَحْرِيم الْإِتْيَان بِالْكُلِّ فَهَذَا مَا يَنْفِي موارد الريب.
وَمن شبه الْقَوْم أَن قَالُوا: إِذا زعمتم أَن الحانث المتخير بَين الْخلال الثَّلَاث لَا يجب عَلَيْهِ جَمِيعهَا، وَإِنَّمَا يجب وَاحِدَة مِنْهَا لَا بِعَينهَا، فَذَلِك الَّذِي سيقع مِنْهُ مَعْلُوم لله فَهَلا قُلْتُمْ: إِن الْوَاجِب على الحانث مَا علم الله وُقُوعه مِنْهُ، فَإِن مَا علم وُقُوعه يَقع لَا محَالة، قَالُوا: فَإِذا ثَبت ذَلِك يلْزم مِنْهُ أَن يكون الْوَاجِب مُتَعَيّنا فِي علم الله ملتبسا على الْمُكَلف، وَهَذَا إفصاح مِنْك بتكليف مَا لَا يُطَاق.
قيل لَهُم: هَذَا تلبيس مِنْكُم، وَأول مَا يلزمكم عَلَيْهِ إِعْتَاق الرَّقَبَة مَعَ التَّخْيِير فِي كل الرّقاب وَالْعلم بِأَن الله تَعَالَى عين الرَّقَبَة الَّتِي سيعتقها فيلزمكم من ذَلِك مَا ألزمتموه، ثمَّ نقُول تعلق علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بخلة من الْخلال لَا يُوجب تعينه فِي حكم التَّكْلِيف، فَإِن الْعلم يتَعَلَّق بالمعلوم على مَا هُوَ عَلَيْهِ وَلَا يَقْتَضِي للمعلوم وَصفا وَلَو كَانَ تعلق الْعلم بالمعلوم يَقْتَضِي مُنَافَاة التَّخْيِير وَجب أَن يتَضَمَّن إِخْرَاج مَا عدا الْمَعْلُوم عَن قبيل المقدورات من حَيْثُ إِن الْمَعْلُوم يَقع كَمَا قلتموه فلئن لم يلْزم ذَلِك فِي حكم الْقُدْرَة لم يلْزم فِيمَا رمتموه. وَهَذِه المسألة وَهِي خلاف الْمَعْلُوم مِمَّا يعظم خطرها فِي الديانَات. وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ غَنِي، ثمَّ نقُول لَو طلب من العَبْد فعل لَا بِعَيْنِه وَهُوَ مُتَعَيّن وَلَا يتَمَكَّن العَبْد من العثور على الْعلم بِهِ فَذَلِك من الْمحَال الَّذِي لَا يرد التَّكْلِيف بِهِ، فَأَما إِذا كَانَ الْوَاقِع هُوَ الْمَعْلُوم وَهُوَ يَقع لَا محَالة فَأنى يلْتَحق ذَلِك بِمَا لَا يدْخل فِي طوقه وَكَانَ تعلق الْعلم تَابع لفعله الَّذِي يختاره وَفعله لَا يتبع تعلق الْعلم.

.فصل:

فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ مذهبكم فِي الْوُجُوب فخبرونا عَن حَقِيقَة أصلكم فِي الْإِرَادَة، فَإِذا حنث الْمُكَلف وَلَزِمَه إِحْدَى ثَلَاث خِصَال فَمَا مُرَاد الله مِنْهَا.
قيل لَهُم: الْإِرَادَة لَا تطابق مواقع الشَّرْع وجوبا على مَذَاهِب أهل الْحق فَإِن كل حَادث مُرَاد لله مَحْظُورًا كَانَ أَو وَاجِبا فَالْجَوَاب السديد إِذا أَن كل مَا علم الله وُقُوعه من العَبْد فَهُوَ مُرَاد، وكل مَا أَرَادَ وَجب إِيقَاعه.
وَأما الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُم فسحوا القَوْل فِي ذَلِك فَقَالُوا: إِذا تعلق التَّخْيِير بخلال يسْتَحبّ جمعهَا فَكلهَا مُرَادة لله وَإِن كَانَت بِحَيْثُ يحرم جمعهَا فَوَاحِدَة مُرَادة وَجَمعهَا مَكْرُوه لله. وَقد تكون وَاحِدَة مُرَادة وَالْبَاقِي لَا مُرَادة وَلَا مَكْرُوه. وإيضاح ذَلِك بالأمثلة أَن الحانث لما يُخَيّر بَين الْإِعْتَاق وَالْإِطْعَام وَالْكِسْوَة فَلَو أَتَى بجميعها كَانَ مثابا عَلَيْهَا فَكلهَا مُرَادة لله فَإِن إِرَادَة الله تَعَالَى تتَعَلَّق بِكُل خير وَإِن تعلق التَّخْيِير بأَشْيَاء يحرم جمعهَا كالتزوج من الْأَكفاء وَنصب الْأَئِمَّة فِي زمن وَاحِد مَعَ التَّخْيِير فِي الْآحَاد، فالواحد مِمَّا هُوَ قبيله مُرَاد، وَالْجمع مَكْرُوه لله تَعَالَى، وَإِن تعلق التَّخْيِير بأَشْيَاء تتَعَلَّق بالمعصية بترك وَاحِدَة مِنْهَا وَجَمعهَا مُبَاح غير مَحْظُور وَلَا مثاب عَلَيْهِ فالواحد مُرَاد وَالْجمع غير مُرَاد وَلَا مَكْرُوه وَهَذَا وصف الْمُبَاح عِنْدهم لَا تتَعَلَّق بِهِ إِرَادَة الله وَلَا كراهيته.
وأصولنا بمعزل عَن هَذَا فَإنَّا نقُول الْإِرَادَة تتَعَلَّق بِكُل الكائنات مَعَ تبَاين أوصافها.

.فصل:

اعْلَم، أَن التَّخْيِير إِنَّمَا يتَعَلَّق بشيئين متباينين متميزين أَو بأَشْيَاء على هَذَا الْوَصْف. وَإِنَّمَا يثبت التَّخْيِير بشرائط مِنْهَا أَن تكون الأِشياء الَّتِي يتَعَلَّق بهَا التَّخْيِير بِحَيْثُ تتَمَيَّز، ويتمكن للمكلف من الْعلم بتميزها، فَلَو لم يكن كَذَلِك لما صَحَّ التَّخْيِير فِيهَا وَمن الشَّرَائِط اتِّحَاد وَقت الْأفعال وَمعنى ذَلِك أَن يَأْتِي كل وَاحِد بَدَلا عَن أغيارها. فَلَو ذكرهَا وَلَو ذكر للمكلف فعلان مؤقتان بوقتين فَلَا يكون ذَلِك تخييرا، فَإِنَّهُ فِي وَقت الأول لَا يتَمَكَّن من الْفِعْل الثَّانِي مَعَ تَقْدِير اتِّحَاد الْوَقْت وَمن شَرَائِط التَّخْيِير أَن تتساوى صِفَات الْأَشْيَاء الَّتِي خير فِيهَا حكم التَّخْيِير. وَبَيَان ذَلِك أَن التَّخْيِير إِن كَانَ فِي إِيجَاب فيتصف كل مَا يقدم عَلَيْهِ بَدَلا عَن أغياره بسمة النّدب.
فَإِن قيل: أَلَيْسَ التَّخْيِير ثَبت فِي كَفَّارَة الْحِنْث بَين الْإِعْتَاق وَالْإِطْعَام وَالْكِسْوَة ثمَّ لم تتساو فِي جملَة الصِّفَات فِي أَن الْعتْق أَولا والْإِطْعَام عَلَيْهِ أُخْرَى.
قُلْنَا: هَذَا سُؤال من لم يفهم مَا قدمْنَاهُ، فَإنَّا قُلْنَا قد يَنْبَغِي أَن تتساوى الْخلال فِيمَا وَقع التَّخْيِير فِيهِ، والتخيير فِي الْخِصَال الثَّلَاث إِنَّمَا هُوَ فِي قَضِيَّة الْإِيجَاب إِذا وَجب عَلَيْهِ أحد الثَّلَاثَة فَلَا جرم تتساوى كلهَا فِيمَا أومأنا إِلَيْهِ وَأما النّدب فَلَا ينطوي عَلَيْهِ هَذَا التَّخْيِير.
ثمَّ لَا تظن الْمَعْنى بتساويها اتصاف كلهَا بِالْوُجُوب على مَا صَار إِلَيْهِ فِئَة من الْمُعْتَزلَة، وَلَكِن المُرَاد بِهِ أَنه مَا من وَاحِد يقدم الْإِقْدَام عَلَيْهِ أَولا إِلَّا يَقع وَاجِبا فَهَذَا مَا عنيناه بالتساوي وَرُبمَا يؤول كَلَام الْمُعْتَزلَة إِلَى قريب من ذَلِك فيرتفع الْخلاف وَإِلَيْهِ أَشَارَ عبد الْجَبَّار فِي شرح الْعمد.

.القَوْل فِي أَن الْأَمر هَل يَقْتَضِي إِجْزَاء الْمَأْمُور بِهِ؟

اعْلَم، وفقك الله أَن هَذَا الْبَاب مِمَّا عده الأصوليون أصلا من الْأُصُول وتسببوا إِلَى إِقَامَة الْمَقْصُود فِيهِ بالأدلة وَرُبمَا يوثرون فِيهِ ضربا من الْخلاف وَمن أحَاط علما بِهِ أغناه تَصْوِير من المسألة على التَّحْقِيق عَن.............................................
نصب الْأَدِلَّة واستحال عِنْده تعذر الْخلاف فِيهِ على معرض يثبت أَو يبطل بالأدلة، فَإِن ورد الْأَمر مقتضيا فعلا متصفا بأوصاف أَو مَنْسُوبا بشرائط فَإِذا أقدم الْمَأْمُور على الْمَأْمُور بِهِ، ووفاه جملَة أَوْصَافه وشرائطه من غير إخلال بِشَيْء مِنْهَا فقد وَقع البادر مِنْهُ مِمَّا لَا يحْتَاج إِلَى إيضاحه بالأدلة، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنى بالإجزاء إِلَّا مَا قدمْنَاهُ.
فَإِن قيل: أفتجوزون أَن يرد الْأَمر بِمثل مَا أقدم عَلَيْهِ الْمَأْمُور ثَانِيًا؟
قُلْنَا: يجوز ذَلِك ووضوح تَجْوِيز ذَلِك يُغني عَن تثبيته بالأدلة.
فَإِن قيل: افتجوزون وُرُود الْأَمر بِقَضَاء مَا فرغ الْمَأْمُور مِنْهُ؟
قُلْنَا: إِن عنيتم بِالْقضَاءِ وجوب مثله بِأَمْر جَدِيد فَلَا نستنكر وَإِن عنيتم بذلك أَن يكون الثَّانِي تلافيا لما أخل بِهِ أَولا وَمَا أخل بِهِ، فَهَذَا محَال، فَإنَّا فَرضنَا هَذَا الْقَبِيل من الْكَلَام فِيهِ إِذا امتثل الْأَمر أَولا من غير اختلال آئل إِلَى اقتداره وَمن غير اختلال متقدر خَارج عَن مُوجب التَّكْلِيف فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَأنى يتَصَوَّر الْقَضَاء على معنى تلافي الاختلال وَلَا اختلال.
فَإِن قيل: فَالْأَمْر الْوَارِد هَل يجوز أَن يَقْتَضِي الْفِعْل مرَّتَيْنِ.
قُلْنَا: سبق الْكَلَام فِي مسئلة التّكْرَار، وَورد الْأَمر بِفعل مَوْصُوف بِوَصْف فِي معرض الْإِلْزَام وتضمن إِيجَاب إِيقَاعه على جملَة الصِّفَات الْمَذْكُورَة فَإِذا أخل الْمُكَلف بِشَيْء مِنْهَا فَلَا يكون ممتثلا لِلْأَمْرِ وَالْأَمر لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مُقَيّدا بِوَقْت وَإِمَّا أَن يكون مُطلقًا، فَإِن كَانَ مُطلقًا غير مُتَعَلق بِوَقْت على التَّخْصِيص فَإِذا لم يمتثله الْمَأْمُور على وَجه فَلَا يكون ممتثلا، وَنَفس الْأَمر يَقْتَضِي مِنْهُ الأمتثال، فَإِن كَانَ الْأَمر بِالْفِعْلِ الْمَوْصُوف بالأوصاف مؤقتا بِوَقْت ثمَّ خرج وقته، فَإِذا أقدم عَلَيْهِ على خلاف الْأَوْصَاف المضبوطة فَلَا نجعله ممتثلا وَلَكِن لَا يثبت الْقَضَاء إِلَّا بِأَمْر جَدِيد على مَا سَنذكرُهُ. فِي بَاب مُفْرد إِن شَاءَ الله عز وَجل.
فَإِن قيل: فَإِذا لم يقتدر الْمُكَلف على مَاء وَلَا تُرَاب وأوجبتم عَلَيْهِ إِقَامَة الصَّلَاة على حسب استطاعة حَاله فبماذا أوجبتم الْقَضَاء؟.
قُلْنَا: إِذا فرضتم الْكَلَام فِي فرض مُؤَقّت فَالْأَمْر بِهِ مؤقتا لَا يَقْتَضِي إِعَادَته بعد انْقِضَاء الْوَقْت. وَإِن الْكَلَام فِي فرضتم مُطلق فَلَا يتَحَقَّق الْقَضَاء فِيهِ وَلَكنَّا نقُول إِذا لم يقدر على مَا أَمر بِهِ فَلم يمتثل والامتثال عَلَيْهِ بَاقٍ، فَلَيْسَ هُوَ إِذا من إِلْزَام الْقَضَاء فِي شَيْء.
فَإِن قيل: فَمن أفسد حجه أَلَيْسَ يجب عَلَيْهِ الْمُضِيّ فِي فَاسد الْحَج ثمَّ يلْزمه الْقَضَاء.
قُلْنَا: نعم وَلَكِن إِنَّمَا ألزمناه حجَّة صَحِيحَة لِأَن الْأَمر اتَّصل بِهِ مقتضيا حجا متعريا عَمَّا يُفْسِدهُ فَإِذا أفسد الْحَج بَقِي عَلَيْهِ أصل الِامْتِثَال.
فَإِن قيل: إِنَّمَا نفرض الْكَلَام عَلَيْكُم فِيمَن بَرِئت ذمَّته عَن حجَّة الْإِسْلَام وَشرع فِي حجَّة التَّطَوُّع ثمَّ أفسدها فإتمامها وَاجِب وقضاؤها حتم.
قُلْنَا: إِنَّمَا وَجب قَضَاؤُهَا بِأَمْر جَدِيد وَإِلَّا فَالْأَمْر بإتمامها لَا يتَضَمَّن بِنَفسِهِ الْأَمر بإعادته، وَوجه التَّحْقِيق فِي ذَلِك أَن مَا ورد الْأَمر بِهِ هُوَ الْإِتْمَام بعد الْفساد، وَلَا يتَصَوَّر أَن يُؤمر بالإتمام على هَذَا الْوَجْه تلافيا لما أَمر بِهِ أَولا، وَالَّذِي يُؤمر بِهِ إِنَّمَا هُوَ مَا لم يتَعَلَّق بِهِ الْأَمر بالإتمام، فَإِن الْإِتْمَام لما أَمر بِهِ وامتثله الْمَأْمُور فقد وَقع موقع الْإِجْزَاء إتماما بعد إِفْسَاد، فَلَا جرم لَا يتلافى على هَذَا الْوَجْه الَّذِي وَقع وَالَّذِي قصد الْقَضَاء لَهُ مَا وَقع مِنْهُ حَتَّى يُوصف بِأَنَّهُ مجزئ أَو غير مجزئ، وَهَذِه جملَة مقنعة فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَإِن قيل: فقد تختل الْعِبَادَة بِمَا لَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ وَذَلِكَ مثل أَن ينسى الْمصلى ركنا من صلَاته فَلَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ فِي حَالَة كَونه نَاسِيا ثمَّ لَا يوجبون الْقَضَاء.
قُلْنَا قدمنَا فِي ذَلِك صَدرا مغنيا عَن الْكَلَام. ومحصوله أَنه مهما لم يَأْتِ بِمَا أَمر على مَا أَمر لَا يعد ممتثلا، فَيبقى عَلَيْهِ الْأَمر بالامتثال، وَمَا فرضتم الْكَلَام فِيهِ من النَّاسِي فَلَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ على مَا قَالُوهُ، وَلَكِن إِذا انجلى النسْيَان، توجه عَلَيْهِ الْأَمر بالائتمار والامتثال، وَهَذَا كَمَا لَو نسى الِامْتِثَال أصلا بُرْهَة من الزَّمَان فَإِذا تذكره تعلق أصل الْأَمر بِهِ فِي الِامْتِثَال.